أبويا يوميها دب خناقة مع أمي ع الصبح ومزاجه اتعكر، فلما شافني لابس المريلة اتعصب عليا وطلع غله فيا، وحلف طلاق ما أنا رايح المدرسة دي ولياخدني معاه الغيط ويمسكني فاس عندًا في أمي.. كان عارف إن أمي موتها وسمها إن حاجة تعطلني عن المدرسة، كانت عايزة تطلعني مهندس زي خالي.. خالي الحاضر الغايب دايمًا في المناكفات والمعايرات بين أمي وأبويا!
قلعت المريلة، ولبست عباية ملهلطة ومبقعة لايقة ع الذل اللي هشوفه.. الغريبة إني كنت فرحان! كنت مخنوق من المدرسة وعايز أروح أي حتة إن شا الله جهنم..
ركبت الحمار ورا أبويا، ومرينا بطريق المدرسة، شاورت لخالد وصلاح وهم رايحين متكدرين وطلعتلهم لساني ..
وصلنا الغيط ع الساعة تمانية.. نطيت من ع الحمار، ومسكت الفاس، رفعته بالعافية، قبل ما أبويا يناديني بعصبية ويقولي: هات الفاس ده وروح اقعد تحت الشجرة اللي هناك دي، واوعاك تاخد على كدة، مدرستك أهم حاجة، هو النهاردة بس اللي هتريحه.. أتاري رغبته في تعليمي ضعف رغبة أمي.. من ناحية أب ومش عايز ابنه يتبهدل زيه ويضيع عمره في فِلاحة بتبري الإنسان وتمص دمه، ومن ناحية تانية لو أنا اتعلمت هيرتاح من سيرة خالي، وهيكسب بونط من أمي..
قعدت تحت الشجرة ع القناية ودلدلت رجلي في المية، وبصيت للسما، كنت عكس كل العيال بحب شكل قرص الشمس أكتر من القمر، كنت بخاف من النجوم وسواد السما، وبحب النهار وبستنى طلعته، كنت..
عيني زغللت من البص في الشمس، فأخدتها ونزلت على مية القناية، سألت نفسي “ليه مفيش سمك هنا؟ مع إن الترعة مليانة؟ مش دي مية ودي مية؟”
فجأة حصل اللي قطع تفكيري ورجعني أبص للسما تاني، صوت قوي هزني.. رفعت عيني فلقيت سرب طيارات قريبة، فرحت وهللت وقمت من مكاني أتنطط، طلعت الشجرة في ثانية قال يعني كدة هبقى قريب منهم وأشوف اللي جوة!
حسيت الشجرة بتتخلع بيا في نفس الوقت اللي سمعت فيه صوت تكسير وخبط ورزع كان هيصرعني، فغمضت عيني وحطيت صوابعي في وداني لحد ما الصوت راح واختفي وظهر مكانه صوت أبويا..
إنت فين يا عامر؟ عاااااامر..
نطيت من ع الشجرة وأنا مرعوب، قلت هيرميني في الترعة أو هيحدفني بقالب طوب في دماغي، لكن لقيته بيجري عليا بلهفة وبيحضني بعنف، حضن طويل قطعه صوت صويت وصريخ جاي من القرية..
أبويا خدني في إيديه وجرينا ورا مصدر الصوت، لحد ما وصلنا المدرسة..
عمر المنظر اللي شفته ما فارق أحلامي من ساعتها ..
المدرسة متكومة ع الأرض..
رجالة وستات البلد بيجروا من كل حتة في كل اتجاه، الستات كانوا بلبس البيت وبشعرهم عادي..
صوت اللطم ع الخدود أقسملك اخترق وداني أكتر من صوت الطيارات والتكسير والرزع اللي سمعته من شوية!
كل ده وأنا مش فاهم أي حاجة، لحد ما لقيت خالد وصلاح متشالين ع الكتاف ووشهم كله دم! كانوا لا حركة ولا صوت ولا رمشة!
ركنوهم على جنب، وراحوا يجيبوا غيرهم من تحت المدرسة المتساوية بالأرض..
كوموا جنبهم عيال كتير على نفس وضعهم، لا صوت ولا حركة ولا رمشة، واللي كان بيطلع حي كانوا بيركبوه على الجرارات الزراعية ويجروا بيه على الصالحية عشان يلحقوه.
شفت تلاتين طفل من زمايلي ميتين، وشفت إصابات تخلع القلب، ومع كل ده ما عيطش، ما صرختش، الموقف كان أكبر من استيعابي!
أمي ظهرت من اللامكان وحضنتني هي كمان بعنف، وأنا ولا داري، سحبتني من إيديا ع البيت، وقعدت أدامي تبصلي مستغربة حالة الصمت دي، غريبة على طفل شاف الهول!
ساد الصمت كل حاجة، حتى صويت الستات المكلومة على عيالها انقطع، حسيت بصداع من فرط الصمت، كان لازم أنفجر عشان أرتاح، لكن إزاي؟ مش قادر ومش عارف!
كنت مستني أول حرف يتنطق من أمي أو أي صوت من الشارع عشان أنفجر، فجِه من الراديو..
أيها الإخوة المواطنون جاءنا البيان التالي..
أقدم العدو في تمام الساعة التاسعة وعشرين دقيقة على جريمة جديدة تفوق حد التصور، عندما أغار بطائراته الفانتوم الأمريكية على مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية، وسقط الأطفال بين سن السادسة والثانية عشر تحت جحيم من النيران”
فانفج.رت وانفج*رت مصر بالكامل.